كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها. بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة.. ففي الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش- منذ عام الحزن- وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة، كان الله- سبحانه- يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم- يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين- وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة. ومحنة الجب والخوف والترويع فيه. ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها.. هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف عليه السلام وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج منها كلها متجردا خالصا؛ آخر توجهاته، وآخر اهتماماته، في لحظة الانتصار على المحن جميعا؛ وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله؛ وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}.. آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}.
وهكذا كانت طلبته الأخيرة.. بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل.. أن يتوفاه ربه مسلما، وأن يلحقه بالصالحين.. وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير..
فلا عجب أن تكون هذه السورة. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك، مما يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة معه في مكة، في هذه الفترة بالذات، تسلية وتسرية، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين المتوحشين!
لا بل أن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكونفيها النصر والتمكين؛ مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد! كما أخرج يوسف من حضن أبيه، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.. ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز.. حتى وهو ما يزال فتى يباع بين الرقيق..!
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا- أشير إليه ولا أملك التعبير عنه!- ذلك التعقيب الذي أعقب القصة: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}..
إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل- كما استيأس يوسف في محنته الطويلة- والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب!.. الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة، وهي في مثل هذه الفترة تعيش، وفي جوها تتنفس، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح. من بعيد..
والسورة ذات طابع منفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة. فالقصص القرآني- غير قصة يوسف- يرد حلقات، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها. وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا. أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة. وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا.
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة؛ ويؤديها أداء كاملا.. ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف، وتنتهي بتأويلها. بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى.
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل في جميع الوجوه؛ فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة، والتعقيبات التي تلتها.
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة- بعض الشيء- عن هذا الأداء الكامل، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد... وبالله التوفيق..
إن قصة يوسف- كما جاءت في هذه السورة- تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا.. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء!
إن القصة تعرض شخصية يوسف عليه السلام وهي الشخصية الرئيسية في القصة- عرضا كاملا فيكل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة؛ وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها.. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات.. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز. وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال.. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة. متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول.. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها.. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة.. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة.. ونموذج العزيز وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه!.. ونموذج الملك في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق.. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر.. ومع استيفاء القصة لكل ملامح الواقعية السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة.. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة.. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشيء مستنقعا من الوحل يسميه الواقعية كالمستنقع الذي أنشأته الواقعية الغربية الجاهلية!
وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري؛ بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تزور- أي تزوير- في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف، فإنها لم تسف قط لتنشيء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين الواقعية أو يسمونه أخيرا الطبيعة! وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف: إخوة يوسف.. والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها! ثم تزين لهم المحلل الشرعي! الذي يخرجون به من تلك الجريمة.. ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية- وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات الله وسلامه- وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم، وحاجتهم النفسية- من ثم- إلى مبرر للجريمة، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.
ونحن نجدهم- هم هم- في كل مواقف القصة بعد ذلك- كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها- فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعدما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم- كنعان- ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف، حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله.. ما إن يروا هذا التدبير- وهم لا يعلمون ما وراءه- حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون}..
كذلك نجدهم- هم هم- بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة:
{وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين}.
ومثلها عندما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية- بعدما كشف لهم عن شخصيته- فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه: {ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}..